المصطلحات الجنسية وحقّ المثليين بالزواج

هذه مقالة كنتُ أريد نشرها في الجريدة، لكن رأيت نشرها الآن، وأرجو من قارئها أن يغفر لي طولها حسب أعراف النشر الإلكتروني، كما أرجو قراءة الموضوع كاملا حتى تتضح الفكرة بشكل كامل ويصل المعنى والهدف:
(1)
تسمية الأشياء بأسمائها: "اللواط والسحاق" هما سلوك جنسيّ شاذّ منحرف غير طبيعيّ مجتمعيّاً ودينيّاً".
من القواعد المعروفة عند الدراسين قاعدة "لا مشاحة في الاصطلاح"؛ وتعني أنّ الاختلاف في التسمية والألفاظ بعد الاتفاق على المعنى والمقصد لا ضرر فيه.
لكن هذه القاعدة تُستعمل كثيراً في غير موضعها حين يكون الاختلاف في التسمية والمصطلحات لازماً لاختلاف في المعاني والمقاصد، عندها يصبح التدقيق في المفاهيم والمصطلحات رفضاً وقبولاً أمراً مهمّاً جدّاً، لأنّ المصطلحات والألفاظ تكون محمّلة بموقف فكريّ وعلميّ وثقافيّ يحتاج التفحّص والرفض أحياناً لكنّها تتسرّب إلى الوعي الثقافي متستّرة بغطاء الألفاظ والمصطلحات المُضلِّلة.
ولتوضيح ذلك أكثر أبيّن بعض مستويات دلالة الألفاظ على المعاني والمقاصد واضعاً ذلك في معادلة أقترحها هذا نصّها:
اللفظ أو المصطلح = مصداق اللفظ في الواقع الفعليّ أو الذهنيّ + موقف تقويمي سلبي أو إيجابي من الفعل + سيرة تاريخيّة للفظ محمّلة بدلالات سلبيّة أو إيجابيّة.
ولأنّ المقال يتّضح بالمثال سأتخذ من قضيّة "اللواط والسحاق" والموقف منها ولاسيما بعد موجات من الأحداث المحليّة والعالميّة مروراً باجتماع "حقوق الشواذ" برعاية السفيرة الأمريكيّة في الأردن وليس انتهاء بإقرار المحكمة العليا الإمريكيّة "حقّ المثليين بالزواج"، وما أثارته هذه الأحداث من جدل ونقاش غاب عن أغلبها أهميّة تحرير المفاهيم والمصطلحات، والكشف عن الخطاب المعلَن والمُضمر وراء كلّ مفهوم ومصطلح.
(2)
تتجاذب تسمية هذه القضية مصطلحات ومفاهيم متعدّدة لا يُمكن إدراجها ضمن قاعدة "لا مشاحة في الاصطلاح" لأنّ المعاني والمقاصد التي تحملها هذه المصطلحات مختلفة بل متضادة، فمصطلحات مثل "اللواط والسحاق"، و"الشذوذ الجنسيّ"، و"الانحراف الجنسيّ"، و"السلوك الجنسيّ الشاذ"، و"السلوك الجنسيّ المثليّ"، و"التوجّه الجنسيّ المثليّ"، و"المثليّة الجنسيّة"، و"الهويّة الجنسيّة المثليّة"، و"الطبيعة الجنسيّة المثليّة"، ليست مصطلحات مختلفة لفظاً ومتفقة معنىً كما يتصوّر بعضهم، بل كلّ واحدة منها تنبئ عن موقف ثقافيّ، ورؤية اجتماعيّة وفكريّة وعلميّة أيضاً تكمن وراء كلّ مصطلح ومفهوم.
(3)
وأبدأ بمصطلحي "اللواط والسحاق" وهما المصطلحان الشائعان في المدوّنات التراثيّة فقهيّة وأدبيّة وتاريخيّة في الخبرة العربيّة المسلمة، وهما مصطلحان يدلان على مصداق اللفظ فعلاً وواقعاً، فهما كلمتان دالّتان على طبيعة الفعل الجنسيّ المتمثّل في "إتيان الرجل الرجلَ"، و"إتيان المرأة المرأةَ"، دون موقف تقويميّ سلبيّ أو إيجابيّ يُستنتَج من اللفظ نفسه وحسب، فليس من معنى الكلمتين المعجميّ ما ينبئ عن موقف تقويميّ، لكن الكلمتين اكتسبتا دلالة سلبيّة بسيرتهما في التاريخ العربيّ، وهذه الدلالة السلبيّة تعبّر عن الموقف الرافض لهذين الفعلين دينياً وثقافيّاً ومجتمعيّاً.
ورغم سيادة هذين المصطلحين في المدوّنات التراثيّة العربيّة إلا أنّهما انزاحتا أو أُزيحتا غالباً في المدوّنات المعاصرة لصالح مصطلحات أخرى مثل "الشذوذ الجنسيّ" أو "المثليّة الجنسيّة". 
وهذا الانزياح مرجعه الجدل في السياق الغربيّ والانزياحات التقويميّة والموقفيّة في الثقافة الغربيّة ممّا انعكس بالترجمة والنقل في ثقافتنا العربيّة التي تمارس الاقتراض المصطلحي عن الآخر بوعي أحياناً، وبلا وعي أحياناً أكثر.
(4)
ولضبط الأمر في مقالة محدودة المساحة سأناقش هذه المفاهيم في ثلاثة محاور، كلّ محور يتضمن بدائل مختلفة، كلّ بديل منها ينبئ عن موقف ورؤية، لعلي بعدها أقدّم خياري الاصطلاحي معلّلاً ذلك.
وهذه المحاور هي:
1- الاختيار من مجموعة "سلوك، توجّه، هويّة":
مصطلح "السلوك" ينبئ عن وصف الفعل بأنّه فعل من أفعال الإنسان دون أن يحمّل هذا الفعل أيّ دلالة إضافيّة، فكلمة "سلوك جنسي" تعبّر عن فعل جنسيّ يقع ضمن أفعال البشر لا يكتسب وصفاً تقويميّاً إلا بوصف زائد كأن نقول: سلوك صحيح، أو سلوك خاطئ.
لكن مصطلح "السلوك" يرتبط في الدراسات النفسيّة بالأنماط "الفرديّة"، فلا تدلّ كلمة "سلوك" على فعلٍ عام، أو نمط جماعيّ، وهذه الدلالة العموميّة تأتي من كلمة "توجّه"، فلو قلنا عن ظاهرة ما هي "توجّه جنسيّ"، كان ذلك دلالة على عمومها أو انتشارها انتشاراً يجعلها نمطاً جماعيّاً لا مجرّد سلوك فرديّ.
وخطورة مصطلح "التوجّه" أنّه يحمل في طيّاته الإقرار الاجتماعيّ بهذا السلوك، فوصف ظاهرة بأنّها توجّه لا يعني فقط الإشارة إلى عمومها، بل يحمل في مضمره دعوة لإقرارها نمطاً سلوكيّاً يتجاوز السلوك الفرديّ إلى توجه فئات من المجتمع، لذلك تعمل الجهات "الداعمة" للشذوذ الجنسيّ على إشاعة مفهوم "التوجّه" عوض "السلوك"، حتى يُنظر لهذه الأفعال بوصفها أنماطٍ مجتمعيّة عامة تستحقّ "الاحترام" كأيّ توجّه مجتمعيّ!
ويزداد الأمر خطورة مع مفهوم "الهويّة الجنسيّة"؛ فوصف "الشذوذ" بأنّه هويّة جنسيّة ينطوي على مغالطات علميّة وثقافيّة، فلا دليل علمياً على أنّ "السلوك الجنسيّ الشاذ" هو جزء من الهويّة لفاعلي هذا السلوك، بمعنى أنّها جزء ثابت مكوّن من الهويّة الذاتيّة لفاعل هذا الفعل، فالعلم يقول إنّ هذه الأفعال هي سلوكات ظرفيّة ناتجة عن تحفيز للغرائز في سياقات خاصة يُمكن أن تُكبح ويُمكن أن تحفّز وفق الشروط الظرفيّة، أمّا وصفها بأنّها "هويّة جنسيّة" فيُكسبها الثبات و"الطبيعيّة" البيولوجيّة والثقافيّة.
وعليه فإنّ اختيار مصطلح "السلوك" هو أقرب المصطلحات المتسقة مع العلم والثقافة العربيّة المسلمة، لكنّه مصطلح غير كافٍ وحده ولا بدّ من وصف يُخرج هذه الكلمة من حياديّتها الموقفيّة إلى وصف تقويمي يتسق والثقافة العربيّة المسلمة ومرجعيّاتها، وهنا تظهر أهميّة مصطلح "الشذوذ" مقابل "المثليّة".
2- الاختيار من بين "شذوذ، وانحراف، ومثليّة"،
توحي كلمة شذوذ أو انحراف بموقف تقويمي ثقافي ومجتمعي ودينيّ واضح، فهي تصف هذين الفعلين "اللواط والسحاق" بأنّهما خروج عن الطريق القويم، وانحراف عن السلوك السليم، وهذا موقف متّسق مع الثقافة العربيّة والثقافة المسلمة في مرجعيّاتها الدينيّة والمجتمعيّة والثقافيّة، وقد كان مصطلح "الشذوذ الجنسيّ" أو "الانحراف الجنسيّ" شائعاً في المدوّنات الغربيّة قبل أن يزاحمه ثمّ يزيحه مصطلح "المثليّة الجنسيّة" الذي يخلو من الموقف السلبيّ من هذا السلوك.
لذلك أرى أنّ شيوع "المثليّة" عوض "الشذوذ" في الثقافة العربيّة استعمالاً ينبئ عن واحد من أمرين: قصدية تتبنّاها فئات تريد الاعتراف بهذا السلوك الشاذ والقبول به ثم انتشاره، أو جهالة وغفلة تقع فيها فئات رافضة لهذا السلوك لكنها تساهم في إزالة الحواجز النفسيّة والمجتمعيّة والدينيّة الرافضة في الوقت الذي تزعم محاربتها لهذا السلوك والتحذير منه ومن عواقبه.
3- الاختيار بين "الطبيعيّ وغير الطبيعيّ"،
رغم أنّه لم يثبت علميّاً حسب علمي أيّ تفسير "طبيعيّ" للسلوك الجنسيّ الشاذ سواء كان الأمر بالإحالة إلى العامل الجينيّ أو العامل البيولوجيّ الكيميائيّ، فإنّ وصف هذا السلوك الجنسيّ الشاذ بأنّه طبيعيّ لا يتنافى وشذوذه؛ فالوصف بطبيعيّ وصف لا يلزم منه القبول بالموصوف بأيّ صورة من الصور؛ فالجراثيم والأمراض والزلازل والبراكين ظواهر طبيعيّة أي تعتمد قوانين الطبيعة في حدوثها، لكن كونها طبيعيّة في أسباب الحدوث لا يعني بأيّ شكل من الأشكال قبولها وتقبّلها والسكوت عنها، فالموقف الطبيعيّ من هذه "المظاهر الطبيعيّة" هو معالجتها والعمل على القضاء عليها ما أمكن. هذا على فرض أنّ "الشذوذ الجنسيّ" هو فعل طبيعيّ ينشأ لأسباب طبيعيّة، وهذا ليس بصحيح علميّاً، بل هي أنماط من السلوك التي يمارسها الإنسان بالإرادة والاختيار ضمن الشروط الظرفيّة.
ولكن نتيجة الخلط والقلق في مفهوم "طبيعيّ"، وتحميله دلالات "التطبيع والقبول" فإنّ الحذر في استعمال لفظ "طبيعيّ" يصبح واجباً ثقافيّاً.
وتأسيساً على ما سبق فإنّني أرى أنّ "اللواط والسحاق" سلوكاً شاذاً منحرفاً غير طبيعيّ ينبغي مواجهته ومعالجته ومنع انتشاره وتحوّله إلى "اتجاه أو هويّة طبيعيّة"، وهنا أنبّه إلى أنّ الواجب المتسق مع المرجعيّة الثقافيّة المسلمة هو هذا التوصيف لا غير، وإن كنتُ أشير إلى أنّ الخبرة المسلمة لم توجب بل لا تُجيز التفتيش عن سلوكات الناس في الغرف المغلقة، فهذا شأن ثقافة قامت في تأسيسها وتأصيلها على "الستر"، لكن الأمر الذي ينبغي رفضه والعمل على منعه هو إصرار أصحاب هذا السلوك على فرض سلوكهم نمطاً واتجاهاً مجتمعيّاً يجب على رافضيه احترام "حقوقهم"؛ فالأمر حين يتجاوز "السلوك الفرديّ" إلى "الاتجاه المجتمعيّ" ينتقل من حيّز "الحريّة الفرديّة" إلى حيّز "الحقّ المجتمعيّ"، والحقّ المجتمعيّ عقد جماعيّ يتأسّس على دين المجتمع وثقافته ومنظومته الأخلاقيّة.
لذلك فتسمية الأشياء بأسمائها تُلزمنا أنّ نقول في "اللواط والسحاق": إنّهما سلوك جنسيّ شاذ منحرِف غير طبيعيّ دينياً ومجتمعياً من منظور ثقافة عربيّة مسلمة، وأيّ تفريط بجزء أو مصطلح من هذه المصطلحات ينبئ عن موقف ثقافيّ مجتمعيّ لا يتسق ومنظومة المرجعيّة المسلمة، وخلاف أيّ فئة في هذه التسميات ودلالاتها هو خلاف مع المرجعيّة المسلمة نفسها.
وحين أتحدّث عن المرجعيّة أعني منظومة القيم والمبادئ الحاكمة لا الممارسات السلوكيّة التاريخيّة التي لا تخلو من انحراف وشذوذ.

دكتور نارت محمد – بتصريف يسير 

شاركنا رأيك وكن جزءًا من مجتمعنا!

أحدث أقدم

نموذج الاتصال