تحويل القبلة في القرآن ومظاهر تميز الأمة

(1)
الأقصى هو قبلة المسلمين الأولى لماذا؟
     لحكمة تربوية أشارت إليها آية جليلة (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) (البقرة:  من الآية143)،  فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم،  ويعدونه عنوان مجدهم القومي،  ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله،  وتجريدها من التعلق بغيره،  وتخليصها من كل نعرة ومن كل عصبية لغير المنهج الإلهي.. فقد نزعهم نزعًا من الاتجاه إلى البيت الحرام فترة إلى المسجد الأقصى،  ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية،  وليظهر من يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم  اتباعًا مجردًا من كل إيحاء آخر. ممن ينقلب على عقبيه اعتزازًا بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والأرض والقوم.
إن التمييز ضروري للجماعة المسلمة في التصور والاعتقاد،  والقبلة والعبادة.
وليتألف النبي صلى الله عليه وسلم قلوب اليهود الذين كانوا يتخذون المسجد الأقصى قبلة،  علهم يشعرون بتقارب المنهج ووحدة السلوك والاتجاه فيسلموا. وليتألف الله المؤمنين إلى أهمية المسجد الأقصى تثبيتًا لما كان له من مكانة فهو: 
أ - ثاني مسجد بني في الأرض،  إذ وضعت قواعده بعد المسجد الحرام بأربعين عامًا (متفق عليه)
ب - أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها قال صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد:  المسجد الحرام،  ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى (فتح الباري 3 / 76)
جـ - والصلاة في الأقصى بألف صلاة فيما سواه على الصحيح فعن ميمونة بنت سعد قالت:  يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس. فقال لها:  (أرض المنشر والمحشر،  يتوه فصلوا فيه،  فإن صلاتكم فيه كألف صلاة). قالت:  أرأيت من لم يطق أن يتحمل إليه أو يأتيه؟ قال:   فليهد إليه زيتًا يسرج فيه. فإنه من أهدى كان كمن صلى) (أخرجه أحمد في المسند،  وابن ماجة قريبًا من هذا).
د - والأقصى رابع أربعة مواضع يمنع من دخولها المسيح الدجال،  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  (إن الدجال يطوف الأرض إلا أربعة مساجد:  مسجد المدينة،  ومسجد مكة والأقصى والطور) ( أخرجه أحمد في المسند). فوجب على المسلمين أن يحرروا قبلتهم الأولى ومسرى نبيهم صلى الله عليه وسلم من دنس أحفاد القردة والخنازير. 
(2)
لماذا قبلتـان؟ علمنا أن القبلة هي الاتجاه إلى شيء واحد،  فلماذا كان للمسلمين قبلتان وكلاهما في مهد الدعوة الإسلامية؟
والجواب بسيط جدًا وهو أن الله تعالى جعل دين محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأديان جميعًا فلا دين بعده،  وجعل الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل فلا نبي بعده،  وجعل كتابه مهيمنًا على جميع الكتب فلا كتاب بعده،  وجعل شريعته مهيمنة على جميع الشرائع فلا شرع بعد شرعه صلى الله عليه وسلم،  والعقل يقول بأن من كانت له هذه المميزات والملامح فله أن يتعرض للصحيح من الأمور السابقة،  حتى يجمع الصحيح كله في بوتقة واحدة،  خاصة بعد أن طغت المادية والضلال على عقول كثير من أهل الأهواء والأديان السابقة،  والصحيح الباقي عند اليهود والنصارى معًا وحدة القبلة على المسجد الأقصى،  وطالما أن الرسول جاء بالدين الخاتم فكان من الطبيعي أن يربطه الله تعالى بهذه القبلة الصحيحة،  حتى تظل في ذاكرة المسلمين،  لأن وضوح العلم الإلهي وانكشافه واضح في أن قتلة الأنبياء وراجمة المرسلين،  والقائمين على غير حد،  سيقومون بسلب هذا الطهر المطهر،  هذا القدس المقدس،  فلابد من قومة للمسلمين ليدافعوا عن مقدسهم،  ومسجدهم،  وقبلتهم،  حتى تكون المطالبة بتحريره من أيدي العدو الغاشم الصليبي.
والثابت تاريخيًا أن قبلة اليهود لم تكن استقبال الصخرة كما زعموا،  فليس في التوراة أمرٌ باستقبال الصَّخرة البَّتة،  وإنما على الصخرة وصلَّوا إليه،  فلما رُفع واخْتَفى عنهم صلَّوا إلى موضعه وهو الصخرة،  وتلك قصة قبلتهم،  ولا نعلم فيها وَحْيًا من الله،  بل الذي يترجح عند كثير من علماء المسلمين أنَّ الكعبة هي قبلة جميع الأنبياء،  وهو الثابت السائر على فطر العقول والقلوب خصوصًا أنبياء بني إسرائيل وهم أبناء إبراهيم عليه السلام الذي بنى الكعبة وهي قبلته فهم أولى الناس به،  قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا.. الآية )(آل عمران: 96،  97).
وإنا نريد من هذا إعلان قاعدة هامة:  وهي وراثة الرسول صلى الله عليه وسلم لمقدسات الرسل قبله،  واشتمال رسالته على هذه المقدسات،  واحتضانها لها،  وحمايتها لها،  وارتباط هذه الرسالة بتلك الأماكن جميعًا،  فتصبح هذه الأماكن جزءًا لا يتجزأ من الرسالة الخاتمة،  ولا يحق لأحد أن ينكر على أصحاب هذه الرسالة اهتمامهم بتلك الأماكن،  والمطالبة بحقهم فيها،  والدفاع عنها ضد أي اعتداء.
ومعلوم أنه قد ارتبطت قدسية المسجد الأقصى بالعقيدة الإسلامية منذ أن كان القبلة الأولى للمسلمين،  فهو أولى القبلتين حيث صلى المسلمون إليه في بادئ الأمر نحو سبعة عشر شهرًا قبل أن يتحولوا إلى الكعبة ويتخذونها قبلتهم،  لهذا ربط الله تلك الحالة الواضحة في وجود القبلتين على مر الزمان بوجود مسجد القبلتين ليتذكر المسلمون قبلتهم ـ المسجد الأقصى الأسير ولا ينسونه أبدًا.
ثم توثق هذا الارتباط بالمسجد الأقصى بحادثة الإسراء والمعراج،  تلك المعجزة العقائدية التي اختصت برسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الإسراء: 1).
ويمكننا التركيز على أبرز معالم الحدث الدالة على تميز الأمة واكتفائها بتشريع الله عما سواه من خلال المظاهر التالية:
1- الأمة الوسط:  في شهري رجب و شعبان من العام الثاني للهجرة النبوية فرضت الزكاة ونزلت آيات الجهاد وفرض الصيام وكان أيضا تحويل القبلة حيث أراد الله لهذه الأمة أن تستكمل خصائصها التي تميزها عن سائر الأمم (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً..)(البقرة143)  إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا, وتقول:  هذا حق منها وهذا باطل، لا التي تتلقى من الناس قيمها وموازينها،  وما أخَّر هذه الأمة إلا اتخاذها مناهج وصبغات بديلة عن منهج الله.
2-حكمة تحويل القبلة:  لقد كان تحويل القبلة أولا عن الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية أشارت إليها الآية الكريمة:  (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ)(البقرة: 143). فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم, ويعدونه عنوان مجدهم القومي،  فأراد الإسلام استخلاص القلوب لله وتحريرها من كل نعرة وكل عصبية غير الإسلام كالأرض والتاريخ والعنصرية.. فقد نزعهم نزعا من الاتجاه إلى البيت الحرام, واختار لهم الاتجاه فترة إلى المسجد الأقصى, ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية, وليظهر من يتبع الرسول اتباعا مجردا من كل إيحاء آخر، فلما استسلم المسلمون وجههم إليها،  وقد كان اليهود  بعد الهجرة يتخذون من هذا الوضع حجة لهم, فصدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام (يراجع حديث البراء بن عازب في تحويل القبلة). ولكنه ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى بشأنه. هي حقيقة الإسلام،  حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون  البيت الحرام
(3)
ضرورة تميز المسلمين عن غيرهم:
لم يكن بد من تمييز المكان الذى يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة وتخصيصه كى يتميز المسلم في منهجه واتجاهه وفي الراية والعلامة،  ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم, كما في مثل هذه الآثار: " إن اليهود والنصارى لا يصبغون, فخالفوهم ":  "لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها". "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد،  فقولوا: عبد الله ورسوله " هو نهى عن تشبه في مظهر أو لباس،  ونهى عن تشبه في حركة أو سلوك،  ونهى عن تشبه في قول أو أدب، ثم هو نهى عن التلقي من غير الله  منهجه الذي جاءت هذه الأمة لتحققه في الأرض.
(4)
الوجهة الحسية والمعنوية:  والأمة المسلمة التي تتجه إلى قبلة مميزة يجب أن تدرك معنى هذا الاتجاه،  إن القبلة ليست مجرد مكان أو جهة يتجه إليها المسلمون في الصلاة،  فالمكان أو الجهة ليس سوى رمز،  رمز للتميز والاختصاص, وتميز الشخصية والمنهج  والأمة بغير هذا المنهج المتميز ضائعة في الغمار, مبهمة الملامح, مجهولة السمات, مهما اتخذت لها من أزياء ودعوات وأعلام بديلة،  بدليل أن من تعذر عليه معرفة القبلة الحسية يتحرى ثم يصلي،  وصلاته صحيحة وإن استبان له بعد ذلك خطأ القبلة الحسية (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:  115). وإلا فما معنى أن يتوجه المسلم ببدنه للكعبة وبقلبه لليهود والنصارى يلتمس منهم التشريعات والآداب والأخلاق؟!
(5)
صراع عداء لا  صراع  جهل(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:  145). كثير من طيببي القلوب يظنون أن الذى يصد اليهود والنصارى عن الإسلام أنهم لا يعرفونه, أو لأنه لم يقدم إليهم في صورة مقنعة، وهذا وهم0 إن كبارهم لا يريدون الإسلام لأنهم يعرفونه !نعم يعرفونه ويخشونه على مصالحهم وعلى سلطانهم  وهم دائما كما قال الله تعالى لنبيه الكريم:  (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ). إنهم لن يقتنعوا بأى دليل, لأن الذي ينقصهم ليس هو الدليل; إنما هو الإخلاص في الحجة والتجرد من الهوى, والاستعداد للتسليم بالحق حين يعلمونه:  (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 146).
(6)
ثوابت الدين.. ودعوى التقارب:
هذا.. وقد حاول الكفر على مر العصور أن يثني الأمة عن أهدافها ويخدعها عن مبادئها بشتى المساومات والحيل ولكن الإيمان الثابت بالمبدأ يعصم من المساومة عليه أو الانحراف عنه، أو الخديعة بغيره، فكم أراد اليهود للمسلمين أن ينحرفوا عن هذه القبلة..ولكم يتمنى بعض المسلمين  عدم تعميق الخلاف ويهم بموافقتهم،  ولكن القرآن حسم القضية في قضية القبلة كمثال (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة: 145). والمعنى:  مهما فعلتم أيها المسلمون من محاولات التقارب مع هؤلاء أو قدمتم من تنازلات فلن يرضوا عنكم أو يحبوكم أو يتبعوا منهجكم ولو تبعتم قبلتهم قرونا طوالا، ولن يزيدهم هذا إلا محاولة لاستدراجكم للتنازل عن ثوابتكم،  وفى هذا درس عظيم فى ضرورة تميز الأمة بمبادئها واعتزازها بثوابتها والتقارب لا يكون على حساب الثوابت أبدا، فيجب عليها ألا تطوعها حتى يرضى عنها هذا أو ذاك فلن يرضوا أبدا حتى تتبع الأمة ملتهم،  ألا فليسمع من ينادى بتطعيم الإسلام بشرائع ومناهج لا تتفق معه ليفرض على الناس دينا جديدا هجينا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. 
(7)
تحرير مصدر التلقي:
وما أجدرنا نحن اليوم أن نستمع إلى هذا التحذير; ونحن في بلاهة منقطعة النظير نروح نستفتي المستشرقين (من اليهود والنصارى والشيوعيين الكفار) في أمر ديننا, ونتلقى عنهم تاريخنا, ونأمنهم على القول في تراثنا, ونسمع لما يدسونه من شكوك في دراساتهم لقرآننا وحديث نبينا, وسيرة أوائلنا، ونرسل إليهم بعثات من طلابنا يتلقون عنهم علوم الإسلام, ويتخرجون في جامعاتهم, ثم يعودون الينا مدخولي العقل والضمير،  إن هذا القرآن قرآننا،  ونحن أدرى به،  وأهل الكتاب هم أهل الكتاب, والكفار هم الكفار،  والدين هو الدين، وعليه فليس من شأن المسلمين أن يتبعوا قبلتهم أصلا، ولا ترفع الأمة راية غير رايتها التي تنسبها إلى ربها، ولا تتبع منهجا إلا المنهج الإلهي الذي ترمز له هذه القبلة المختارة،  هذا شأنها ما دامت مسلمة، فإذا لم تفعل فليست من الإسلام في شيء، إنما هي دعوى، ألا فليعتز المسلم بدينه وليقل الناس ما يقولون  فسيظلون في لجاجهم يعمهون فلا على المسلمين منهم: (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(البقرة150).
(8)
إسلام الوجه لله تعالى:  إن من أبرز ما يتعلمه المسلم من هذا الحديث إضافة إلى ما سبق هو الاستسلام والانقياد لأمر الله تعالى،  فلا يحب إلا ما أحبه الله تعالى،  ولا يجد نفسه ومحابه ومآثره إلا عند محاب الله ومرضاته وحدوده عقيدة وشريعة وأخلاقًا،  قولاً وعملاً،  تطبيقا وسلوكًا،  فعنوان المسلم الرضا والتسليم والحب لأوامر الله تعالى، وتعظيم شعائره وتوقير شرائعه،  فلا تراه يرتضي منهجا غير منهج الله،  ولا تحسبه ولو للحظة يسعه التحاكم إلى غير شرع الله تعالى؛ لأنه يعلم ويُسلِّم ويؤمن ويذعن أن الخير كل الخير في الامتثال لأوامر الله تعالى فهو اللطيف الخبير العليم الحكيم بما يصلح عباده ويقيم شئونهم (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(الملك: 14)، وهذا يتجلى واقعا عمليًا خلال هذا المشهد الذي لا يمكن أن تكحل عينيك به أو تشنف أذنيك بسماعه إلا مع هذا الجيل الإيماني والاختيار الرباني جيل تربى في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم،  فيحنما مر رجل من أهل مسجد قباء على قوم وهم يصلون العصر وهم في ركوعهم قال أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت،  استداروا وهم ركوع،  لم ينتظروا حتى يسألوا،  لم يتوانوا حتى يتأكدوا،  لم يبالغوا في طلب الدليل،  لم يتعنتوا مع ناقله يستوثقوا من صحة خبره،  كل ذلك لم يكن،  وإنما كان الاستسلام التام الفوري المليء بالإيمان العميق في أن هذا هو الخير وأن المعرفة بجانب الخير والشر فيه لا يعلمها إلا صاحب الأمر العليم الحكيم،  لم تكن هذه هي الحادثة الوحيدة الفريدة التي تجلى فيها استجابة الصحابة لأمر الله تعالى وإنما يقص لنا أنس قصة تحريم الخمر ذهب ليبلغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر على أندية الأنصار يا بني فلان ألا إن الخمر قد حرمت،  يقول فما استطعت أن أعود من الطريق الذي جئت منه،  لأن دنان الخمر قد أريقت رغم التذاذهم به وتعودهم عليه إلا أن كل هذا يهون ويضمحل وينمحي أثره وحبه من النفس إذا عارضه الأمر الإلهي؛ فهم يسلمون ويوقنون أن الخير كل الخير في الاتباع، (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)(البقرة: 131)، ( وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ)(لقمان: 22).
إن الأمة التي شاء الله تعالى لها أن تكون الأمة الوارثة المستخلفة في الأرض التي تحمل الأمانة وتشهد على العالَمين:  (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)  هذه الأمة أراد الله تعالى لها أن تنفرد بحسٍّ إسلاميٍّ ربانيٍّ مميزٍ،  فأصبح اتجاه المسلمين إلى بيت الله الأول هو تميزٌ للمسلمين،  وهو وراثة الفضل من الله تعالى، وهو المنهج الذي يميز أمة الشهادة،  فيربطها بأصولها وتاريخها وعقيدتها،  ويمنحها القيادة التي خُلقت لها وأُخرجت للناس من أجلها،  فلها تميزٌّ في الجذور والأصول،  وفي الأهداف والغايات،  وفي الراية والوجهة.
فرج 

شاركنا رأيك وكن جزءًا من مجتمعنا!

أحدث أقدم

نموذج الاتصال