الإشاعة: عدو خفي أم حليف غني بالفوائد؟

على ضوء ما حدث أخيرا في الحرم من أحداث، وسرعة النّاس الدّائمة في التّعاطي مع الأخبار، ولكون هذه مشكلة كبيرة من مشاكلنا الاجتماعيّة خاصّة نحن العرب المولعين بالكلام والحديث، ولأنّ معالجة الأمور بكلّيّاتها أبقى وأهمّ من معالجة مثل هذه الجزئيّات الأخباريّة الّتي تذهب مع الرّيح سريعا بذهاب الحدث في نفسه، رأيت أن أجمع هذه المادّة وأختصرها اختصارا شديدا يصلح لقراءة فايسبوكيّة  أو للانترنت بشكل عام لعلّ الله ينفع بها.
الإشاعة ما هي الإشاعة؟
هي خبر نوعيّ أو موضوعيّ مقدّم للتّصديق، يتناقل من شـخص لآخـر، تعتمد إمّا على مبالغة في خبر أو أخبار معيّنة والتّرويج لها وتوسيع نطاق نشرها، أو اختلاق أخبار لا حقيقة تحتها، بهدف التّأثير على الرّأي العامّ لتحقيق هدف سياسيّ أو اقتصاديّ أو عسكريّ ...
فالشّائعة قد لا تعتمد الخيال بكلّيّتها، بل قد تعتمد على جزء من الحقيقة من أجل إمكانيّة تصديقها وتقبّلها، وهو طريق مشهور في مزج الباطل ببعض الحقّ، إذ لا يقبل أحد الباطل إذا تمحّض حتّى يشاب ببعض الحقّ.
والقاعدة المحوريّة الّتي تبنى عليها الشّائعة هي: قابليّة الإنسان لتصديق الكذب إذا وافق هواه أو قناعاته السّابقة، وتكذيب الصّدق إذا خالف هواه وقناعاته السّابقة، مع ترقيع ما يبدو غير منطقيّ وتجاوزه.
مثال شارح لهذه القاعدة: الخبر: درّاجة صدمت سيّارة.
مثال شارح لهذه القاعدة: الخبر: درّاجة صدمت سيّارة.
ذوو التّفكير النّمطي سيعمدون مباشرة لتكذيب هذا الخبر بغير فحص، لأنّ العادة أنّ السّيّارات هي الّتي تصدم الدّرّاجات لا العكس.
وذوو نظريّة المؤامرة والمولعون بالأخبار الغريبة سيصدّقون هذا ويعملون على تدعيمه بما يقدرون عليه من تبريرات.
والمتوازنون يعلمون أنّ الخبر ممكن، لكنّ الإمكان شرط فقط للحدوث لا دليل عليه، فيتوقّفون عن الإثبات والنّفي إلى أن يثبت لهم بدليل مستقلّ صحّة الخبر أو كذبه.

كيف تعمل الشّائعة؟

حتّى وقت قصير مضى بقي علم النّفس الاجتماعيّ قائما على فرضيّة معتمدة جزئيّا على نظريّة (الجيشتالت) في علم النّفس، الّتي تنصّ على كون الإدراك الحسّيّ للأشياء ينحو دائما نحو البساطة والانتظام والإحساس بالاكتمال، فالنّاس يفضّلون النّظريّات والمقولات النّهائيّة والحاسمة والمفسّرة على النّظريّات والمقولات المتشكّكة أو المحتملة أو الظّنّيّة، ولذلك غالبا يجنحون لتصديق واتّباع أصحاب المواقف الحدّيّة والّذين يجزمون بآرائهم جزما ويعرضونها في صورة يقينيّات منتهية، وإن كانت حقيقة الأمر أنّها ظنّية وغير منتهية ولا مفسّرة لكلّ جوانب القضيّة.

وبقدر ما يكون التّناول سطحيّا بقدر ما يسهل هذا العرض الّتي تفضّله الجماهير في صورة شعارات مختصرة يكتفون بها لتفسير كلّ شيء ولا يحملون في الغالب عبء البرهنة والاستدلال، لكن عند الفحص والتّعمّق أو المحاججة يبدأ ظهور الخلل والتّعارض.
والقانون الأساسيّ الّذي تعمل به الشّائعة أنّها تقدّم حلّا سريعا متماهيا مع هذه الشّهوة النّفسيّة للخلاص من ألم الحيرة وعدم الفهم والتّوتّر، بتقديم شرح سطحيّ سهل الفهم والنّشر ليؤثّث موائد الكلام والحوار، بدل الصّمت الّذي يظهرنا في صورة الجهلة أو غير المهتمّين بقضايا المجتمع أو الأمّة، وكلاهما مكروه.
ولهذا فإنّه بناء على هذه النّظريّة افترض البورت وبوتسمان أنّ عدد الشّائعات يتغيّر حسب أهمّية موضوع الحدث ومقدار الغموض في الموقف.
لكن رغم كون هذا القانون وهذه الفرضيّة لقيا انتشارا واسعا وقبولا في علم النّفس الاجتماعيّ فإنّ لا يوجد دليل تجريبيّ واحد يعضده، بل أجريت تحقيقات عديدة شكّكت في الكفاية التّفسيريّة (للأهمّيّة والغموض)، وأشارت إلى متغيٍّرات أخرى قد تكون أكثر أهمّيّة منها فيما يخصّ دوافع نقل الشّائعات.
وهكذا قامت (سوزان أنطوني) الباحثة في علم النّفس الاجتماعيّ في كليّة (ثمالوديت) في واشنطن، بدراسة اختبرت فيها الفكرة الّتي افترضها (كارل يونغ) في إحدى نظرّياته والّتي تنصّ على كون حياة الشّائعة مرهونة بالإثارة العاطفيّة؛ فأجرت اختبارا قياسيّا في القلق المزمن اختارت على ضوء نتائجه عددا من الطّلّاب الثّانويّين بإحدى المدارس في (فيلاديلفيا) ممّن هم متّصفون بدرجات عالية من القلق، ومجموعة أخرى من المتّصفين بالهدوء والتّوازن.
هؤلاء الطّلّاب قاموا بإجراء مقابلة مع مرشد توجيهيّ تحدّثوا معه عن نواديهم الّتي ينتمون إليها؛ وفي هذه المقابلة قام المرشد بالاتّفاق مع (سوزان) بإخبار الطّلّاب أنّ هناك صعوبات ماليّة قد تؤدّي لوضع حدّ لبعض أنشطة النّوادي.
ثمّ قامت بإحصاء الطّلبة الّذين ناقشوا هذه الشّائعة مع غيرهم وأذاعوها فوجدت أنّ ذوي الدّرجات العالية من القلق هم أكثر من نشرها، وبحماس أكبر بكثير من الطّلبة الآمنين، حتّى إنّهم طوّروا تبريرات دفاعيّة عن بعض الثّغرات في خبرهم ليضفوا عليه مزيدا من المصداقيّة!
وقد قام الباحث (روسنو) بالعمل مع (سوزان أنطوني) والعالمة النّفسيّة (ماريا جايفر بييريان) من مدرسة لندن للاقتصاد في توسيع تجربة (سوزان أنطوني) وززيادة التّأكيد والإثبات لها، فقاموا بإجراء دراسة في ثمانية من صفوف الكلية ونشروا شائعة تقول إن طلّابا في صفوف أخرى قد ضبطوا وهم يدخّنون (الماريخوانا) في امتحان نهائيّ.
وكانوا قد قاموا قبل بضعة أيّام بقياس درجات القلق المزمن عند الطلّاب متّبعين المثال الّذي وضعته (أنطوني) في تجربتها السّابقة.
بعد أسبوع سئل الطّلّاب إذا ما كانوا قد نشروا القصّة، فكانت النّتائج الّتي توصّلوا إليها أنّ هذه الأبحاث تدعم النظرية التي تقول إن الشائعة تنتج عن الامتزاج الأقصى بين الحيرة والقلق.

أنواع الشّائعات:

1- الإشاعة الحقيقية:

هي ذات مصدر موثوق وحقيقة مؤكدة تقال لاستبيان تأثير الخبر على سامعه ويتم على ضوئه استنتاج ما يحتاجه ذلك الموضوع من تعديلات وتغيرات قبل إلزام تنفيذه أو تطبيقه .
2- الإشاعة الإستنتاجية:
وهي نتيجة استقراء تطبيقات معينـة خـلال فتـرة محـددة، وتصدر من أي شخص بحسب تعلمه وثقافته وإلمامه بجوانب الموضوع وتبعاً لـذلك تصدق هذه الإشاعة في كثير من الأحيان كلما زاد ذلك الشخص قرباً من الموضـوع إلماماً ومعرفة وتخيب كلما زاد جهله فيه.
3- الإشاعة الحالمة:
وهي نتيجة مشاعر نرجسية وأوهام وتمنيات تصدر عـن فئـة لا تعيش الواقع بجميع أبعاده ومعطياته وميئوس من صدقها
4- الإشاعة الكاذبـة:
ومصدرها ممّن نشأ في بيئة غير صحّية فدرج على إلقـاء الكـلام جزافا، ويكره من يحقق معه في مصداقية كلامه، ولا يحب المواجهة، ونجده ينتقـي سامعيه حتى لا يكون عرضة للمساءلة.
5- الإشاعة الحاقدة:
وهذه أخطر أنواع الاشاعات على الاطلاق بدءا من إشاعة يغرسها عدوّ البلد بين المواطنين لبلبلة الرأي العام وانتهاء بما يتقوّله البعض مـن أصـحاب النفوس المريضة في حق إخوانهم وجيرانهم وزملائهم اشباعا لرغبات النّفس الأمارة بالسّوء

6- الإشاعة الاستراتيجيّة: وهي الإشاعة طويلة الأمد والمفعول

7- الإشاعة التّكتيكيّة: قصيرة الأمد أو المفعول وخادمة للإشاعة الاستراتيجيّة.

8- الإشاعات البيضاء: معروفة المصدر

9- الإشاعات السّوداء: ممجهولة المصدر

10 الإشاعات الرّماديّة:

وهي المموّهة الّتي تصدر من مصدر يبدو مخالفا لمصدرها الحقيقيّ، مثل إشاعات خبر الوفاة أو فضائح الفنّانين الّتي يروّجونها هم أنفسهم عن أنفسهم لتحريك الاهتمام بهم.

والقانون الأساسي لدى البورت وبوتسمان يتفاعل مع الشائعات القصيرة الأمد التي تنتعش في غياب الأدلة التي تنقضها. ولكنها سرعان ما تحدث عندما تجد ما يدفعها أو عندما تصب في نواح ذات مغزى بالنسبة لحاجات الجمهور، وهناك حاجات وتوقعات لا تسكن ولا تهدأ ومن بينها الحاجة لفهم الوضع الإنساني والجوع لما هو فوق الطبيعة مما يجعل من الشائعة حاجة إنسانية واجتماعية. لذلك فإن أهم الشائعات هي تلك التي تستجيب لهذه الحاجات فتعاود الظهور تكرارا وتتجذر في بنية المجتمع الإيمانية والفلكلورية.

خطر الشّائعة:

الحاصل أنّ الشّائعة تعيش إمّا لتحقيق الحاجات والتّوقّعات التي أثارتها = (الأهمّيّة ورفع الغموض)، أو لتخفض مستوى القلق.
ولهذا تـستخدم الإشاعة وتنتشر في وقت الأزمات الاجتماعية والوطنية، ولذلك أيضا فإن زمن الحرب هـو أنـسب وقت لتلك الإشاعات ونشرها حيث يكون الأفراد في حالة استعداد نفسي لتصديق كثيـر مـن الأخبار والأقاويل التي يسمعونها نظراً لحالة التوتر النفسي الذي يعيشونه.
ولذلك فإن كثيـراً من الدول أدركت ذلك وأخذت تستخدم الإشاعات كأحد وسـائل الحـرب النفـسية المهمـة. والإشاعات التي تستخدم في الحرب على نوعين إشـاعات الخـوف وإشـاعات الرغبـة؛ وإشاعات الخوف بما تنطوي علية من إنذار بالخطر تهدف إلى الكف من ثقة الشخص بالنهاية المظفرة لمجهوداته الحربية، فهي إذا كانت تولد قلقاً لا لزوم له كانت أحيانا تؤدى إلى نظرة انهزامية؛ وإشاعات الرغبة من ناحية أخرى تحتوي على تفاؤل ساذج، إذ تؤدى إلى القناعة والرضا عن الحال والخنوع وقبول أي حال ممكن.
وأخطر ما في الإشاعات هو التّأثير الأقوى على الفرد والمجتمع، من حيث سهولة انتشارها وتداولها بين الجماهير المستهدفة، على الرّغم مـن صـعوبة معرفـة مصدرها؛ لأن ضحاياها يسمعونها من أصدقائهم، مما يعطيها صورة الخبر الصّادق، بـل إن ضحاياها يكونون أحياناً هم مروجيها.
فالإشاعة سلوك عدواني ضد المجتمع، وتعبير عن بعض العقد النفسية المترسبة في العقل الباطن، وهذا السلوك العدواني قد ينجم عنه أفعال مباشرة، وقد يتحول إلى نوع من الشذوذ في القول والعمل، ولعل أبرز أنواع الإشاعات هي: ما يتعلّق بأمن الناس؛ لأنه يتركهم في دوامة القلق، ويؤثر على مجرى حياتهم وخاصة الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأمني، وخاصة عندما يفتقد الناس إلى الإدراك والوعي وثوابت الاستقرار كالأمن والدين والقيم.

الخلاصة:

  1. الشّائعة خطر عظيم جدّا في واقع الأمر يمكن أن يؤدّي لتغيير مسار حروب وإسقاط دول وتخريب مجتمعات.
  2. استسهال النّاس لها لأنّ دوافعها النّفسيّة كالعجلة والقلق وحبّ التّميّز والتّفرّد والأهمّيّة والفضول والتّطلّع للمجهول قويّة في وجداننا.
  3. يكفي لقتل الشّائعة التّثبّت والمحاققة بطلب المصدر والدّليل، ولذلك يفرّ المروّجون للشّائعات من هذه المحاققة ويفضّلون إثارة الشّكوك والاحتمالات وانتقاء من يسمعهم بعقليّة المتلقّي لا النّاقد.
  4. سرعة انتشار الشّائعة بين النّاس لأنّها نقل مجرّد لا يهتمّ النّاس كثيرا بالبحث عن مصدره. 
  5. المروّجون لها يكشفون عن خلل نفسيّ في دوافعهم وخلل عقليّ وعلميّ في تعاطيهم مع الأحداث وطريقة صناعتهم للأحكام.

معالجة الشّرع:

" إذ تلقّونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيّنا وهو عند الله عظيم "
هكذا في اختصار جمع المسألة كلّها في كلمات معدودات في معالجته لقضيّة من أخطر القضايا الّتي وقعت في عهد النّبوّة وهي حادثة الإفك، والّتي وقع فيها من وقع من الأجلّاء الفضلاء من صحابة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
فالتّلقّي يكون باللّسان، بدل أن يكون بالأذن الّتي تسمع لتوصل للقلب الّذي يستعرض ويحلّل فينقد ويقارن ثمّ يحكم ثمّ يوازن بين مصلحتي الإذاعة والنّشر أو السّكوت؛ لمنّ أقواما يتلقّون الأخبار بألسنتهم فيذيعون ما سمعوا إمّا غفلة أو سوء طويّة.
ومن كان هذا حاله فهو بلا شكّ متكلّم بلا علم، فإنّه عجول سريع الحكم والاستنتاج بلا تثبّت ولا بيّنة، مذياع في نشر الخبر مهذار كثير الكلام، وهذان صفتان هما النّار في حطب العلم لا تبقي منه إن وجد شيئا، فكيف إذا لم يكن علم ابتداء.
ثمّ الإشارة لتهاون النّاس فيها مع خطورتها وعظمتها عند الله تعالى عالم الغيب والشّهادة، لقلّة إحاطة النّاس بالصّور الكاملة وقصور نظر عامّتهم عن إدراك الكلّيّات الّتي تعميهم عنا الجزئيّات والسّفاسف.
وحكم الله تعالى بالفسق على مروّجي الأخبار بلا بيّنات في القانون الكلّيّ للأخبار الّذي به قام علم النّقل كلّه عند المسلمين:
"
يا أيّها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين "
فقانون التّثبّت والتّبيّن هو العصمة من خطر الشّائعات، وهو العلاج الوحيد الفاعل.
والله الهادي.

المصادر ومراجع التّوسّع:

  1. كتاب سيكولوجيّة الشّائعة للنّابلسي
  2. الأبعاد النفسية والاجتماعية في ترويج الإشاعات عبر وسائل الإعلام وسبل علاجها من منظور إسلامي، د.عبد الفتاح عبد الغني الهمص/ د.فايز كمال شلدان.
  3. دراسة غوردون اولبورت وجويف بوستمان في (1974) بعنوان " سيكولوجية الإشـاعة"
  4. دراسة الإدريسي (1989) بعنوان " أسلحة الحرب النفسية، الشائعات ، غسل الـدماغ، وتصور الوقاية منها"
  5. دراسة رون شليفر (2003) بعنوان :" الحرب النفسية في (إسرائيل) دراسة جديدة"
  6. دراسة عباس (2005) بعنوان: "وسائل الإعلام الصهيوني والحرب النفسية ضد الدعوة والمقاومة في فلسطين والتصدي لها"
  7. دراسة العبد االله (مرزوق) (2005) بعنوان: "الحرب الإعلامية : نمـوذج الإعـلام المقـاوم فـي لبنان"
  8. دراسة خلف (2009) بعنوان "اعتماد الصحافة الحزبية الفلسطينية على الإشاعة وأثرها على التنمية السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة"
  9. علم الّنفس الاجتماعي والشّائعة؛ روسنو وغاري آلان.

شاركنا رأيك وكن جزءًا من مجتمعنا!

أحدث أقدم

نموذج الاتصال