مراحل صناعة المثقف في بلادنا

فيلسوف الوجودية الفرنسي "جان بول سارتر" يوضح لنا في مقدمة كتابه : "المنبوذون في الأرض" صورة واضحة عن صناعة المثقف في دول العالم الثالث ، ننقلها بتصرف :
(1)
"كنا نحضر من وقع عليه الاختيار ونطوف به في عواصم أوروبا ، نعلمه لغاتنا ، وأساليب رقصنا ، وكنا ندبر لأحدهم احياناً زيجة أوربية، ثم نلقنه أسلوب الحياة على طرازنا في الاستهلاك والزينة والأكل.
كنا نوحي ونلهم في اعماق قلوبهم الرغبة في تغريب بلادهم، ثم نعيدهم إلى بلادهم لأداء الدور المطلوب منهم 
كنا بمجرد أن نصيح في عواصمنا: "ليحل المذهب الإنساني أو دين الإنسانية الجديد محل الأديان المختلفة" كنا نسمع رجع صدى أصواتنا ممن صنعناهم يرددون :"...... المختلفة "!
تلك الحلوق التي صنعناها كانت تردد كلامنا بمنتهى الأمانة، وكنا نحن واثقين من أن هؤلاء المثقفين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعناه نحن في أفواههم، بل هؤلاء المثقفين سلبوا حق مواطنيهم في الكلام ." انتهى .
(2)
كلام قاسي جداً ومؤلم ومهين، ولكن هل يبعد عن الحقيقة التي عاصرناها؟
للأسف وبكل حسرة وألم : لا؟
تضافرت جهود الغرب على صناعة هذا المثقف في بلادنا ورعايته وزراعته في مفاصل الدولة السياسية والثقافية والاجتماعية لضمان استمرار السياسة الاستعمارية بعد رحيل المستعمر .
وكانت حركة الاستشراق هي رأس الحربة الاستعمارية في صناعة جيل من المثقفين في بلادنا، بهدف السيطرة على العقول، وتغيير الهوية، ونشر نمط الحياة الاستهلاكية الأوربية، وتوجيه البوصلة الثقافية نحو الغرب.
وقد استفاض الدكتور "إدوارد سعيد" في هذا الجانب في كتابه "الاستشراق" وكنموذج فقط لهذا الدور في صناعة المثقف نذكر ما قاله المستشرق الفرنسي "ماسنيون" أستاذ "طه حسين" عن تلميذه: "إنني حين أقرأ بحثاً لطه حسين أقول: هذه بضاعتنا رُدت إلينا.
(3)
ونحن حين نقول صناعة المثقف، نعني أنه لم يتشبع بخصائص مجتمعه والوقوف على نقاط الضعف والقوة ثم القيام بدوره التنويري النابع من هويته كما فعل مثقف الغرب.
ولكنه تصنع بخصائص المثقف الأوربي، وأراد أن ينقلها كما هي بدون مراعاة لخصائص البيئة المنقولة إليها.
فخصائص المثقف الغربي تشكلت في بيئة عانى فيها من الملكية الفاسدة، والإقطاع المستعبد للمواطن، والكنيسة المتحالفة مع كليهما وزادت عليهما احتكارها لتفسير الدين والدنيا، بل وتفسير العلم، بل وبيع الآخرة بصكوك الغفران .
هذا فضلاً عن الدور الذي لعبته عالمية البابا في إذابة القوميات الأوروبية، وفرض اللغة اللاتينية على حساب اللغات القومية.
هذه البيئة هي التي أنبتت خصائص المثقف الغربي، فكانت قيمته في مجتمعه نابعة من نضاله من أجل تنحية الدين (الكنيسة) عن الحياة، ومحاربة الإقطاع، وتأسيس عقد اجتماعي جديد ينظم علاقة المواطن بالدولة، ويخضع سلطة الدولة للمراقبة والمحاسبة والعزل، هذا فضلاً عن كفاحه في أحياء لغته وقوميته .
دفع مثقف الغرب ثمناً باهظاً في كفاحه من أجل هذه المبادئ، جعلته مثالاً للمثقف الذي يحمل مشعل النور لقومه .
(4)
فماذا فعل المثقف المصنوع عندنا ؟
أراد أن ينقل معارك المثقف الغربي إلى مجتمعه كما هي، فأتت معاركه بنتائج عكسية تماماً .
حارب الدين وحاول تنحية الدين الإسلامي عن الحياة، فهدم سور الحصن الذي حفظ للأمة هويتها وأخلاقها، وسر قوتها أمام غزو أعدائها، وروح حضارتها وريادتها وتميزها .
حاول إحياء القومية، فضرب الوحدة الإسلامية في مقتل. وفتح الباب أمام الغرب لهزيمة الدولة العثمانية وصولاً لاحتلال فلسطين.
حاول إحياء اللهجات العامية على حساب اللغة العربية، فلا هو حفظ تلك اللهجات ولا هو طور لغته العربية .
وليته مع هذا ناضل من أجل العقد الاجتماعي لعلاقة المواطن بالدولة، علاقة تحفظ للمواطن حريته وكرامته، ولكن تقلب في أروقة السلطة أياً كان توجهها شيوعياً أو اشتراكياً أو قومياً أو ليبرالياً .
وحتى لا نُتهم بالتعميم، نحن هنا نتحدث عن سمة عامة اتصفت بها طبقة احتكرت لنفسها لقب مثقف، وعاشت في كنف ورعاية السلطات المتعاقبة أياً كان توجهها .
وهناك حالات آخرى سنكتشفها....
تعليق:
نخبة ثقافية مستغربة مغرورة ...لا هي استطاعت أن تنقل محاسن الثقافة الغربية إلى بلادنا بل نقلت اسوأ ما فيها ولا هي تمكنت من تطوير بلادها والقيام على نهضتها الحضارية ...ليست نخبة بل نكبة لم تشعر في يوم من الأيام بالفخر لانتماءها للحضارة العربية ولا حتى لارضها ولم ولن تتمكن من الإندماج في الحضارة الغربية فأصبحت مسخا ....وستظل مسخا
المشكلة فيمن تأثروا بهم ورأوا في شخصياتهم نماذج يسعون دوما لتقليدها !!!
بئست البضاعة وبئس المشترون لها !!

أجنحة المكر -  وزاد عليه محمود صقر

شاركنا رأيك وكن جزءًا من مجتمعنا!

أحدث أقدم

نموذج الاتصال