المنافقون في كل عهد.. وفي كل زمان

 (1)
سميت سورة "التوبة" بالسورة الفاضحة من حيث أنها عنيت بكشف فضائح المنافقين والمخذلين الذين يندسون في الأمة ليحدثوا بلبلة في الأفكار واضطراباً في النفوس وهلعاً من العدو.. وهذا من منطلق طبعهم المتأصل في نفوسهم، والذي كان سبباً في نفاقهم وهو الضعف والحذر، والخوف والجبن عن ملاقاة الأعداء واسترخاص الحياة في سبيل الله سعياً إلى حياة العز والقوة والمجد..
هؤلاء المنافقون في كل أمة هم آفاتها وجرثومة الفتك والدمار بها.. ذلك أن لديهم من فصاحة اللسان، والكلام المعسول، والتعليلات الملفقة، والقدرة على اختراع ما يثير الشكوك والريب، ما يثبط العزائم والهمم، وما يسبب الفرقة والخلاف بين الصفوف، مما يجعل البسطاء يتأثرون بما يسمعونه منهم دون تحر ولا تدبر.. وهذا ما يقرره القرآن الكريم عنهم: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة:47).
(2)
ويشتد نشاط هؤلاء في أيام الحروب.. إذ من عادتهم الصيد في الماء العكر.. ولقد اهتمت هذه سورة التوبة ببيان مواقفهم السخيفة في غزوة تبوك.. تلك الغزوة التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت القيظ والحر الشديد.. ذلك الموعد الذي تميل النفس فيه إلى الراحة، والتمتع بالظل والماء البارد.. دعا المؤمنين إلى هذه المعركة مع أقوى دول العالم حينذاك.. مع دولة الرومان العظمى في وقت كانت هي المنتصرة على منافستها فارس.. لما علم تجمع قواتها لحرب المسلمين.. ولأول مرة يعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقصده في غزواته!..
فقد كانت لديه من الحكمة في القيادة ما يجعل كل تحركاته السابقة لهذه الغزوة في سرية تامة حتى لا يتسرب الخبر إلى العدو حتى يفاجئه بالضربة القاضية دون تأهب منه ولا استعداد.. حرصاً منه صلوات الله وسلامه عليه على عدم إراقة الدماء، وعلى رسم الخطط بما تتطلبه المواقف الحازمة.. ولكنه في هذه الغزوة بالذات أعلن عن مقصده.. إذ إنها بعيدة وشاقة، والوقت صيف قائظ، والعدو في أوج عظمته السياسية والعسكرية.. ومن ثم كان لابد من إعلام أصحابه حتى يستعدوا استعداداً كافيا..
فليست المعركة عادية كهذه المعارك التي خاضها من قبل.. وصدر الأمر بالنفير العام، وحرك الإيمان نفوساً بذلت كل ما تملك في سبيل الله، كما فعل سيدنا عثمان بن عفان وغيره من الصحابة البررة.. وهنا.. وأمام هذه الأخطار التي يترقبها دائماً المنافقون انخلعت قلوبهم، وتوافدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوفود يعتذرون عن الخروج معه بأعذار واهية حتى بلغت تفاهة أعذارهم أن جاء رجل منهم يعتذر بأنه يحب النساء وأنه لا يطيق إذا رأى نساء الروم أن يفتن بهن.. هكذا يدعي أنه يخاف الفتنة بالنساء مع أنه بتقاعسه يدعو إلى فتنة أكبر.. ومن هنا قال عنه رب العزة: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (التوبة:49).
(3)
إنهم حاقدون على الإسلام والمسلمين كلما رأوه ينتصر ويظهر حز ذلك في نفوسهم، وساءهم وكانوا في كرب عظيم، وإن أصيب المسلمون بمحنة فرحوا وشمتوا وأطلقوا الإشاعات المغرضة الكاذبة قائلين: نحن أبعد نظراً.. لقد علمنا النتيجة قبل حصولها فلم نخرج معه؟!.. وهذا ما يقرره القرآن الكريم: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) (التوبة:50). ويخرس القرآن ألسنتهم بصوت الإيمان: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:51).. 
والمؤمنون لا يصيبهم شر مطلقاً.. فإنهم لا ينتظرون من الحياة إلا أحد أمرين لا ثالث لهما: إما أن يعيشوا أحراراً في عزة وقوة ونصر يقهر كل الأعداء، وتعلو معه كلمة الله، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. وإما أن يموتوا بررة شهداء تستقبلهم حياة أخرى أفضل من تلك الحياة الدنيا (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (آل عمران:169-170).
أما المنافقون فلا مصير لهم سوى أمر واحد هو العذاب.. إما من عند الله وإما بأيدي المؤمنين (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (التوبة:52).
(4)
ومن شأن المنافق الخوف من المؤمنين أيضاً.. فهو مضطر إلى مصانعتهم ومجاملتهم، وإظهار إخلاص لا يحويه قلبه فتراه ينفق بعض ماله متبرعاً به للحرب.. لكنه لا يتبرع به ابتغاء مرضاة الله ولكن رياء وخداعاً للمؤمنين.. والقرآن الكريم يرفض هذا الذي ينفقه بلا إخلاص (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة:53-54) نعم.. فما دام أصل العمل وأساسه مفقوداً وهو الإيمان فلن ينفعهم ما ينفقون ولو كان ملء الأرض ذهباً سواءً أنفقوه تقية وخداعاً، أم خوفاً من المؤمنين.. وإن هذه الأمور التي يتمتعون بها ويعجب الناس بغناهم وبكثرة أولادهم ما هي إلا خزي لهم في الدنيا بالحرص على جمعه والغم في إنفاقها.. وفي الآخرة لأنه لا ينفع هناك مال ولا بنون (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة:55).
ومن شأن المنافق أيضاً أن يحس ويخاف أن ينكشف فيدافع عن نفسه ومواقفه دائما بالحلف أنه من المؤمنين (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) (التوبة:56) ويبلغ أثر هذا الفرق والخوف أنهم (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (التوبة:57)..
(5)
هذا شأن المنافقين في الحروب.. أما في أوقات السلم والرخاء فإنهم لا يكفون عن إثارة البلبلة وترويج الإشاعات الكاذبة، والاعتراض دائما على مواقف الحق والعدل والإنصاف إنهم نفعيون.. أنانيون.. لا يهمهم إلا أنفسهم.. فتراهم حين يوزع الرسول صلوات الله وسلامه عليه الزكاة والغنائم يلمزون وينالون منه (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) (التوبة:58) وما هذا شأن المؤمن..
فلو كانوا مؤمنين لرضوا (مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) (التوبة:60) فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقسم الأمور بهواه ولكنه منفذ لأمر الله الذي حدد المصارف التي تضمن التكافل الاجتماعي، والتأمين ضد الحوادث والأخطار.. فالصدقات لا تصرف إلا للفقراء المحتاجين الذين بهم شيخوخة أو مرض يمنعهم من العمل ولا مورد لهم، والمساكين الذين لا يملكون ما يكفيهم حاجتهم ولو كانوا أصحاء يعملون ولا يكفي دخلهم من عملهم ملتزماتهم العائلية وعندهم من العزة الإسلامية ما يمنعهم من السؤال..
قال صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان" قالوا فما المسكين يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئاً" ويصرف منها جزء آخر للعاملين عليها الذين يجمعون أموال المسلمين. وجزء آخر للمؤلفة قلوبهم الذين يعطون ليثبت الله إيمانهم، أو لمن يرجى من إسلامه خير، ولمن يدفع ضرراً عن المسلمين، ومن العلماء من يرى أن هذا الصنف لا يحل إعطاؤه الآن لعزة الإسلام، ومنهم من يرى الباب مفتوحاً للظروف والطوارئ التي قد تجد على الأمة الإسلامية وهو الأوجه..
ويعطي كذلك العبد الذي اتفق مع سيده على ثمن معين لإعتاقه فيعانون من الزكاة على التحرير.. وهذه مفخرة كبرى للإسلام في رغبته الشديدة في محو الرق والعبودية، ورد حاسم على من يتهمه بالتشجيع عليه.. والآن وقد ألغي الرق فمن الممكن أن يوجه هذا الجزء لمساعدة الشعوب الإسلامية التي تسعى في تحررها من كل سيطرة أجنبية، ويعطى الغارمون الذين تحملوا أو ضمنوا ديناً لأحد فلزمهم أداؤه، أو لمن أصابتهم جائحة أو فاقة مفاجئة.. أما الصنف السابع فهو في سبيل الله، وسبيل الله هو الدعوة إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة.. فقد حصر القرآن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف:108) وأمره بتلك الدعوة بهذه الوسائل السلمية، فقال: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:125)
(6)
وإذن فالإنفاق على الدعوة هو المقصود الأسمى من مصرف (في سبيل الله) وما كان الجهاد إلا فتحاً لمجال الدعوة، وقضاء على معوقاتها.
ومن هنا رأينا الجهاد وتجهيز الجيش وإعداد العدة أول ما يشمله سبيل الله.. بل من العلماء من خصه بذلك.. والإنفاق في سبيل الله.. والذود عن الإسلام غاية ما بعدها غاية.. إنها جهاد في سبيل الله.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله فقد غزا".
والصنف الأخير الذي يُعطى من الصدقة ابن السبيل.. وهو ذلك المسافر الذي ليس معه ما يستعين به على سفره فيُعطى من الصدقة ما يكفيه إلى بلده، ولو كان ذا مال وفاء بحق التعاون الإسلامي والأخوة الدينية.. هذه هي الأصناف الثمانية التي حددتها الآية القرآنية لمصارف الزكاة.. ويرى الإمام مالك وعامة أهل العلم رضي الله عنهم أن المؤمن أن يعطي زكاته كلها إلى صنف واحد من هذه الأصناف، وعلى ذلك يقدم الأهم على المهم حسب الظروف المحيطة به.. وإننا لنهيب بالأمة الإسلامية في شتى بقاع الأرض أن تحذر من دعايات المنافقين الأفاقين مروجي الإشاعات ومثبطي الهمم.. فهم قد بين القرآن الكريم طريقتهم في النيل من الإسلام، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، وإنقاذ الجرحى والمصابين واليتامى والمساكين والنازحين والمضطهدين.
كتب الله النصر للإسلام، وأيده بروح من لدنه إنه سميع مجيب.

د. محمد المختار –

شاركنا رأيك وكن جزءًا من مجتمعنا!

أحدث أقدم

نموذج الاتصال