الأزهر الشريف.. منذ اللورد كرومر إلى الآن (هل سيصمد أم سينهار)

ما لا تعرفه عن الأزهر
إن الأزهر هو العَلَم الذى يفوح بعطر الوحى، وينشر ضوءه فى جنبات الكون، ويتحدى الأعاصير الهوج، ويمضى واثق الخطى عبر الزمن حصنًا منيعًا يحتضن الإسلام وعلومه منذ أكثر من عشرة قرون مضت.
إن فضله لا ينكره إلا جاحد أو جاهل، بعث الأمة من رقدتها وأيقظها من غفوتها وأخذ بيدها نحو الريادة والخلود فلقد كان العامل الأهم فى تحريرها السياسى وفى تفوقها العلمى، صقل العقول وربى الملكات وقوّم الألسنة، وخرّج العباقرة، وكان الأزهر لمصر خاصة منارة لألاءة يفد إليها من كل الأقطار من يريد أن يقبس من نورها وينهل من علمها، خرج من مدرسته الفارس البطل والخطيب المبدع والصحفى البارع والسياسى الماهر والزعيم القائد والإمام الجليل.
سَخِر من المحن، وتخطى الفتن، ومضى فى طريقه لا يأبه بالصغائر، ولا يحنى هامته للكبائر، وكان الدوحة النضرة التى امتدت فروعها وآتت أكلها، فتقلدت به مصر مجدا لم يسبقها إليه أحد ولم يلحقها إلى يومنا هذا أحد بالرغم من المؤامرات والمحاولات.
أسباب قوة الأزهر
ولكن هذه المكانة بدل أن تفخر بها مصر حركت أعداءه إلى عقد مؤتمر القاهرة سنة 1906م برياسة (زويمر) لبحث أسباب قوة الأزهر التى جعلت الشعب المصرى يسير خلف علمائه الفاقهين يربونه على المثل والأخلاق القرآنية فانتهوا إلى أسباب القوة تتمثل فى:
1- نظام الكتاتيب التى يحفظ فيها الأطفال كتاب ربهم.
2- موارد الأوقاف المساعدة على الاستمرار والاستقلال.
3- مكانة العلماء فى نفوس الأمة.
4- مناهج الأزهر المستقاة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بلا تعصب مذهبى وبلا تفريط فى ثوابت الدين.
خطط إضعاف قوته
ومن يومها اتجهت جهود أعداء الأزهر إلى إضعاف عوامل القوة السابقة:
1- فأشاع اللورد كرومر حول الكتاتيب سلبياتها وسعى إلى إنشاء مدارس رعاية الأطفال من سن الرابعة تعنى بدراسة اللغة الإنجليزية ومدارس اللغات التى تحبب الأطفال فى المتحدثين بها مع خلوها من دراسة الدين وحفظ القرآن الكريم كما جاء فى ديوان (الحياة المعاصرة) بالأهرام.
2- إلغاء أوقاف الأزهر وربطه بميزانية الدولة للقضاء على استقلاله.
3- السخرية من علماء الأزهر فى الأفلام والمسرحيات بالمظاهر المزرية لسلب مكانتهم وهيبتهم واحترام العامة لهم.
4- تطوير مناهج الأزهر بقبوله منهج الغرب فى التعليم كما رأى «دنلوب» ومزاحمة العلوم الإسلامية بإدخال مناهج التعليم العام معها والشعور بالدونية لمن يدرس ويتعمق فى فهم العلوم الإسلامية وإهمال دراستها حتى لا يفهمها فهمًا صحيحًا، وحتى ينفتح المجال أمام الشبهات المبنية على جهل اللسان الذى نزل به القرآن.
5- إلغاء المحاكم الشرعية كخطوة أولى لتوحيد «القضاء» على منهج النظام الغربى فى التشريع، والسعى إلى الخطوة الثانية بتوحيد مناهج التعليم وإلغاء التعليم الدينى، كما عبر طه حسين عن ذلك بالخطوة الثانية والتى كثر الحديث عنها فى تلك الأيام.
6- العناية بدراسة اللغات وما يتصل بتطوير العلوم المدنية كالهندسة واللغات والعلوم الكونية وتقديم الخريجين منها على أنهم الصفوة وكليات القمة وإهمال خريجى العلوم الإسلامية مع أن الإسلام يدعو إلى تكامل المعارف دينية ومدنية بحيث لا تطغى دراسة على الأخرى.
يقول اللورد كرومر الحاكم الإنجليزى لمصر «إن المصرى الذى خضع للتأثير الغربى وإن كان يحمل الاسم الإسلامى، لكنه فى الحقيقة ملحد ارتيابى، والفجوة بينه وبين عالم أزهرى حقيقى لا تقل عن الفجوة بين عالم أزهرى وأوروبى".
وتحقق ذلك للأسف فى بعض خريجى الأزهر المفرَّطين فى ثوابت هذا الدين.
يقول الفيلسوف الغربى (جب) عن هذه المدارس الغربية: «إنها لن تفرز إلا هياكل بشرية خالية من الفضائل والأخلاق والمُثل وما هى إلا تفريخ مسوخ آدمية متنكرة لدينها ووطنها وأبناء جلدتها".
يقول (دنلوب) مستشار وزارة المعارف المصرية بعد أن بحث مناهج التعليم فى مصر". إما أن نطور الأزهر حتى يقبل المنهج الغربى فى التعليم وإما أن ننشئ مدارس وجامعات مدنية تدرس علوم الدنيا فقط ولا صلة لها بالدين»، ثم قال: «إن الفرض الأول مستحيل التحقيق فى هذا الوقت فلنتجه إلى الفرض الثانى.
وهذا ما تحقق فى واقع مصر الآن من انتشار الجامعات الخاصة التى تدرس باللغات الإنجليزية والفرنسية واليابانية والألمانية والإيطالية فى الوقت الذى تحافظ فيه كل الدول على لغتها وبخاصة فى تعليم أبنائها الصغار.
ومن يقرأ ما كتبه الدكتور محمد البهى وزير الأوقاف المصري الأسبق فى كتابيه «الفكر الإسلامى الحديث وصلته بالاستعمار الغربى، والأزهر ودوره فى تكوين العالم الثالث» - بالرغم من دراسته العليا بألمانيا - يتأكد من ذلك.
ويقول الأستاذ عمر فروخ: «لقد تعثر الشرق فى حياته السياسية والقومية لأن المدارس الأجنبية المختلفة قد مزقت أبناء الوطن الواحد طوائف متباينة؛ إذ التعليم قوة توجيهية عظيمة فلا يجوز أن تكون فى يد أجنبية تلعب بها وتستغلها لمآرب وأغراض تقضى على ثقافتنا وهويتنا".
ويقول الأستاذ محمد إقبال: «إن التعليم هو الحامض الذى يذيب شخصية الكائن الحى ثم يكونها كما يشاء فهو أشد قوة وتأثيرا من أى مادة كيماوية تحول جبلا شامخا إلى كومة تراب».
الواقع المر
والواقع الآن يترجم ما يحقق للحاقدين أحلامهم، ومن أدلة ذلك:
1- أن التنافس قد بلغ أشده لدى متوسطى الحال فى إدخال أولادهم المدارس الأجنبية منذ الرابعة من أعمارهم حين رأوا ضعف الأداء فى المدارس الحكومية وفى الأزهر؛ مقتدين بالمسئولين والأثرياء فى ذلك ودعمهم بإمكانيات آبائهم مع ثقافتهم الأجنبية المرحب بها فى الوصول إلى مواقع التوجيه والثراء، وترتب على ذلك تباهى هذا الشباب بتضمين كلامهم ألفاظا أجنبية ساخرين من لغتهم وعروبتهم.
2- إن الحديث فى وسائل الإعلام يلح على تغيير مناهج الأزهر بما يتلاءم مع مواثيق الأمم المتحدة؛ تجفيفا لمنابع الإرهاب ويقصدون به الإسلام بحجة تحديث النظم التعليمية بما يضمن التعددية والتعايش السلمى على هدى ما يسود العالم من ثقافة الديمقراطية - بصرف النظر عن ثوابت الإسلام التى يدَّعون أنها كانت مؤقتة فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته - ويعبرون عنه بالحداثة وتاريخية النص التى تطفح بها الآلة الإعلامية.
3- انعقاد المؤتمر العربى لمواجهة التطرف والتعصب فى مكتبة الإسكندرية تحت رعاية الأمين العام لجامعة الدول العربية ووزارة الخارجية المصرية والذى ذكر فى بيانه الختامى توصياته التى ستقدم إلى الحكومة ومنها:
أ-  تطوير السياسات التعليمية من خلال توحيد التعليم (وطبعا سيكون فى ضوء الخطوة الثانية التى نادى بها طه حسين منذ سنوات لإلغاء التعليم الدينى بالأزهر الشريف).
ب- فتح أبواب الاجتهاد لمعرفة مقاصد الشريعة ممن ليس أهلا لذلك والاعتراف بالمنظور التاريخى للتشريع وتطويره للتلاؤم مع مقتضيات العصر والتوافق مع مواثيق حقوق الإنسان.
جـ - ضرورة التطوير فى التعليم الدينى بما يمنع التطرف والعنف (وكأن مناهج الأزهر هى التى صنعت هذا التطرف، مع أن العالم كله يعترف بوسطية الأزهر).
ولا ندرى كيف يطور التعليم الدينى مع توحيد التعليم وإلغاء الأزهر؟
4- سبق إصدار قانون رقم 103 لسنة 1961م والخاص بتطوير الأزهر مركّزاً على إلغاء نظام الكتاتيب وفتح المعاهد الابتدائية الأزهرية بديلا عنها، مع إضافة مناهج التعليم العام إلى حفظ القرآن الكريم بحجة تأهيله للكليات العملية واعتراف وزارة التربية والتعليم بشهادات الأزهر، وكذلك فعلوا فى المراحل الإعدادية والثانوية، ونتج عن ذلك أن طلاب الأزهر لم يستوعبوا هذا الكم من تلك المقررات فأهملوا حفظ القرآن واهتموا بمقررات التعليم العام على حساب المقررات الشرعية واضطر المسئولون فى الأزهر للتساهل فخفَّضوا المقررات الشرعية واللغوية، واستمر التخفيف من هذه المقررات كلما شكا الطلاب وأولياء أمورهم، بل استجابوا إلى تخفيض سنوات الدراسة فى المعاهد الأزهرية الإعدادية من أربع سنوات إلى ثلاث، وفى الثانوية من خمس سنوات إلى أربع سنوات إلى ثلاث.
موقف أساتذة الجامعة
واضطرت جامعة الأزهر إلى قبول الحاصلين على الثانوية الأزهرية حسب المجموع العام دون أن تتأكد من صلاحية هؤلاء الطلاب لدراسة العلوم الإسلامية، ووقف أساتذة الجامعة موقفا لا يحسدون عليه فإن حكَّموا المقاييس العلمية الصحيحة كانت النتيجة صفرًا أو أقل من 10% واتهِمُوا بالظلم والتعسف، وإن تساهلوا كان عليهم إثم شهادة الزور.
وفى هذا الجو الكئيب تخرج فى الأزهر من يخطئ فى تلاوة القرآن ومن لا يقيم جملة صحيحة لغويا، وارتقى هؤلاء الخريجون منابر الدعوة فى المساجد ومثَّلوا الأزهر فى المنتديات والمؤتمرات وفى وسائل الإعلام فى تقديم الإسلام على ما استطاع فهمهم إدراكه بعيدا عما تركه المجتهدون من عمق الفهم الذى تميز به الأزهر وصولا إلى الأحكام الصحيحة.
5- ظل هذا القانون بلا تعديل جوهرى وكأنه نص مقدس مع أن السائد فى كل القوانين أن تخضع للتطبيق العملى وإعادة النظر فيها للقضاء على السلبيات وتعظيم الإيجابيات، ونتج عن ذلك انفلات فى ضوابط التعليم الصحيح وهبوط شنيع فى استخدام الفصحى التى نزل بها الوحى من كتاب وسنة صحيحة، مما أدى إلى إنشاء جامعات إسلامية أخرى فى غير مصر بمناهج مختلفة وظروف أفضل وعطاء جزيل للوافدين إليها من شباب العالم الإسلامى الذى كان الأزهر بالنسبة له النبع الصافى الوحيد لتلقى علوم الإسلام بالمنهج الوسطى بعيدًا عن الغلو والتطرف والتعصب، وأصبح الأزهر مؤسسة مصرية رسمية بميزانية خاصة تقل كثيرًا عما يصرف للجامعات الأخرى بعد أن كان جامعة عالمية مستقلة معتمدة على أوقاف تحفظ له هذا الاستقلال.
6- بعد أن كانت الدراسة بالأزهر مجانية فرضت على طلابه رسوم دراسية عالية للوافدين وأخرى للمصريين، مما شجع على فرار الطلاب الوافدين العاجزين عن دفعها.
ويتضح من كل ما سبق أن أعداء الأزهر قد اتخذوا شعار التطوير - لمحاربة الفكر الإرهابى - مطية لتنفيذ ما أدلى به المحتلون من إلغاء الكتاتيب التى كانت تعنى بحفظ القرآن وتجويده، وإلى تخفيف وضحالة المناهج الشرعية والعربية لتشويه التعليم الدينى لدى العامة وصولا إلى إلغائه كما ينادون به الآن.
كيف المخرج؟
والمخرج من هذا العبث وتحقيق ما يصبو إليه العالم الإسلامى الذى ما زالت شعوبه تقدر الأزهر وعلومه:
1- أن يتولى علماء الأزهر الأثبات النظر فى مناهجه تحقيقاً لمبدأ التخصص حيث إننا فى عصر لن يطلب من طبيب أن يتحدث عن الهندسة ولا من التجاريين والاقتصاديين أن يتدخلوا فى الطب.
2- أن يعنى بحفظ القرآن الكريم وباللغة العربية والتربية الدينية فى جميع مراحل التعليم حفاظا على هويتنا
3- أن يلتزم المعلمون التدريس بالعربية الفصحى دون استخدام اللهجات العامية حفاظا على لغة الوحى وتوحيداً للصف المسلم.
4- أن يظل اتباع المنهج المعيارى الذى يضمن تعليم هذه الفصحى لغير الناطقين بها.
5- إعادة أوقاف الأزهر تحقيقا لاستقلاله.
6- تشجيع من يريد أن يدخر عند الله صدقة جارية فى تعليم الإسلام بإعادة الثقة فيما يوقف على ذلك بإشراف من يتقى الله فى صرف ما ينتج عن هذه الأوقاف.
7- مراقبة مناهج التعليم فى المدارس والجامعات الأجنبية حتى لا تدس فيها أفكار غريبة تتعارض مع الإسلام.
8- القضاء على غربة اللغة العربية بين أهلها، فقد صار الحديث بها فقط تخلفا وصار الخطأ اللغوى هو الأصل، وتعدى ذلك إلى انتشار أسماء غربية للمحلات التجارية ولأطفالنا بما يوحى ويؤدى إلى تغريب الأمة والإشعار بأننا صرنا متحضرين إرضاء للغرب وتزلفا إليه..
هذا ولا يفوتنا الجهد المبذول الآن من هيئة كبار العلماء بالأزهر استنهاضا لهمم المخلصين والمصلحين فى صد هجمات مثيرى الشبهات وتنقية المقررات من الآراء الشاذة والتأويلات الفاسدة المفسدة..
وبالله التوفيق والسداد


أ.د. محمد المختار محمد المهدى - عضو هيئة كبار علماء الأزهر – بتصريف

شاركنا رأيك وكن جزءًا من مجتمعنا!

أحدث أقدم

نموذج الاتصال